ما وراء السيف: المجلد الأول – الملك عبدالعزيز: أسس الدبلوماسية العامة

ما وراء السيف: المجلد الأول – الملك عبدالعزيز: أسس الدبلوماسية العامة

بقلم: نورا الزاهد

عند تناول مفهوم الدبلوماسية العامة في المملكة العربية السعودية، قد يظنه البعض مفهوماً حديث النشأة، تبلور مع انطلاق رؤية 2030. الحقيقة التاريخية تؤكد أن الدبلوماسية العامة السعودية تمتد جذورها إلى بدايات تأسيس الدولة، وأن الملك عبدالعزيز آل سعود كان رائداً في توظيف أدوات القوة الناعمة لترسيخ الوحدة، وترميم التباينات القبلية، وإرساء دعائم الهوية الوطنية الجامعة

فقد كان الملك عبدالعزيز، مؤسس الدولة السعودية الحديثة، قائداً يجمع بين فطنة الميدان وحنكة المفاوض، بين الحزم العسكري والذكاء الاستراتيجي في التواصل وبناء التحالفات. وقبل أن يتبلور مصطلح "الدبلوماسية العامة" في أدبيات العلاقات الدولية، جسّدها عملياً في توحيد المملكة، إذ مزج بين الحملة العسكرية والشرعية الدينية، وبين خطاب مطمئن وتحالفات محسوبة، لتنشأ بذلك المملكة عام 1932 على أسس صلبة من التماسك والاعتراف الدولي

 

التفاعل القبلي وبناء الثقة الاجتماعية

كان الملك عبدالعزيز يُدرك أن توحيد الأراضي لا يكتمل إلا بتوحيد النفوس، وأن النصر الحقيقي يكمن في كسب القلوب لا فقط الحصون. فبذكائه الاجتماعي العميق، تعامل مع القبائل بمنطق الشراكة والاحترام، وليس بمنطق الإخضاع. وبدلاً من فرض الولاء بالقوة، سعى إلى بناءه عبر الحوار والاعتراف بالهوية القبلية والتقاليد المحلية. وقد نجح في تحويل خصوم الأمس إلى حلفاء اليوم، ليؤسس بذلك دولة ترتكز على الثقة والانتماء المشترك

 

الإسلام كرافعة للوحدة والمشروعية

حرص الملك عبدالعزيز على جعل الإسلام محوراً للتقارب، وركيزة للمشروعية السياسية والاجتماعية، فجعل من نفسه خادماً للدين وحامياً لمقدساته. وقد اكتسب هذا التوجه بعداً إستراتيجياً عقب سيطرته على مكة المكرمة والمدينة المنورة، مما عزز مكانته كزعيم إسلامي له شرعية دينية في العالم الإسلامي

وفي عام 1926، استضاف مؤتمر مكة الإسلامي جامعاً علماء ومفكرين من مختلف البلدان الإسلامية، ليجدد من خلاله التزامه بوحدة الصف الإسلامي وتعزيز التضامن الديني. لقد قدّم مشروع التوحيد بوصفه رسالة دينية جامعة، لا مجرد إنجاز سياسي، وهو ما خلق شعوراً وطنياً ينسجم مع الهوية الإسلامية ويعزز موقع المملكة كمرجعية دينية للعالم الإسلامي

 

الاتصال الاستراتيجي وتأسيس الدولة

امتاز الملك عبدالعزيز بقدرة خطابية مؤثرة، وبواقعية براغماتية في توظيف الاتصال كأداة لإلهام الجماهير وتثبيت أركان الحكم. فخطاباته الموجهة للقبائل وللشعب لم تكن مجرد كلمات، بل أدوات لإعادة تشكيل الهوية الوطنية وبناء الوعي الجماعي. ومن خلال تأسيس هياكل إدارية وقضائية تمزج بين إرث القبيلة ومنطق الدولة، رسّخ الانتقال السلس من التعدد المحلي إلى النظام الوطني المركزي، بما يضمن الاستقرار ويكفل القبول الشعبي

 

الشعر كأداة دبلوماسية وثقافية

أدرك الملك عبدالعزيز القيمة الرمزية والثقافية للشعر العربي، فاستخدمه كوسيلة لإيصال الرسائل السياسية وتعزيز روح الانتماء الوطني. وقد ورث هذا الحس الشعري من والدته، سارة بنت أحمد السديري، التي غرست فيه حب التراث الأدبي. وأصبح الشعر في عهده ليس مجرد تعبير فني، بل أداة دبلوماسية تخاطب وجدان المجتمع وتُجسّد قيم الفخر والتضحية

قصيدة "السيف الأجرب"، المنسوبة للإمام تركي بن عبدالله، كانت حاضرة في الخطاب الوطني، حاملةً رمزية الدفاع عن الأرض والشرف، وهي نفس القيم التي مثّلها الملك عبدالعزيز فيتوحيد المملكة. و أعلن عام 2023 "عام الشعر العربي"، في امتداد رمزي لهذا الإرث الثقافي المؤثر في الهوية والدبلوماسية

 

التحالفات والمعاهدات: دبلوماسية متوازنة

كان الملك عبدالعزيز يعلم أن المعاهدات أحياناً أكثر فاعلية من السيوف. ومن خلال اتفاقيات مفصلية مثل معاهدة دارين (1915) ومعاهدة جدة (1927) ومعاهدة الطائف (1934)، رسّخ موقع المملكة على الخريطة الدولية، وضمن اعتراف القوى العظمى، وساهم في بناء مناخ إقليمي أكثر استقراراً. لقد كان قائداً يدرك أن السلام المدروس هو أحد أنبل انتصارات الدولة

 

العلاقات الدولية: بين الاستقلال والانفتاح

قاد الملك عبدالعزيز دفة العلاقات الخارجية بمهارة فريدة، فحافظ على توازن دقيق بين تأكيد السيادة والانفتاح على العالم. وكان لقاؤه التاريخي مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1945 على متن المدمرة "يو إس إس كوينسي" تجسيداً لبداية شراكة استراتيجية ما زالت قائمة حتى اليوم. كما حافظ على علاقات متزنة مع بريطانيا ودول الجوار، مؤكداً استقلالية القرار السعودي مع حماية مصالحه الاستراتيجية

 

الدبلوماسية الاقتصادية: النفط كأداة سيادية

كان الملك عبدالعزيز من أوائل من أدركوا أن الاقتصاد هو أحد أعمدة النفوذ السياسي. فمع توقيع اتفاقية الامتياز النفطي عام 1933، بدأ عصر جديد من التحول الاقتصادي، ساهم في جذب الاستثمار الخارجي، دون التفريط في السيادة على الموارد الوطنية. وقد جعل من النفط أداة تفاوض وسيطرة، لا فقط مصدر دخل

 

الإعلام كقوة ناعمة

في وقت كانت فيه وسائل الإعلام محدودة، أدرك الملك عبدالعزيز أهمية الخطاب الإعلامي الموجه، فأسس صحيفة "أم القرى" عام 1924، كأول منبر رسمي لنقل التوجهات الوطنية. كما سمح بتغطية دولية مدروسة لأنشطة المملكة، مما عزز صورتها كدولة مستقرة ذات طموح مستقل

 

إرثٌ مستمر في الدبلوماسية المعاصرة

إن المبادئ التي أرساها الملك عبدالعزيز من احترام الهوية، وتقدير الدين، وتوظيف الاتصال الذكي لا تزال تمثل حجر الزاوية في الدبلوماسية السعودية المعاصرة. واليوم، بينما تتوسع آفاق رؤية 2030 وتتعزز مكانة المملكة على الساحة العالمية، يجدر التذكير بأن الدبلوماسية العامة ليست مستوردة أو مؤقتة، بل هي جزء أصيل من سرديتنا الوطنية

لقد كان توحيد المملكة إنجازاً دبلوماسياً بامتياز، بُني على الحوار، والشرعية، والاحترام، والتواصل، وهي ذات القيم التي تواصل المملكة اليوم بناء مستقبلها من خلالها